قـسوة الأيـــــــــام
هل باتَ الصمتُ أبلغَ لغاتي، وأقوى من حروفي وعطرِ كلماتي. هل سينـتشلني الصمتُ من عذاباتي، ويُواري ألمي في تربةِ الآهات. باتَ الصمتُ وليفي في عُزلتي، وأنيسي في وَحدتي. قلمي جفاني، وهو من كان بالأمسِ سندي وأماني، ومنبع قوّتي وإتزاني، ووسيلتي عند عَثرتي، عند حُزني وثورتي، في كل آنٍ ومكان. لا زال عَبقُ حبرِه يفوحُ من جُروحي، من جسدي وروحي
حروفي تمردت، أمست ثكلى تئٍنُّ في غُربتها، أثخنـتها قسوةُ سطوري التي حملتها، رُغماً عنها، إلى من يُعرضُ عنها، إلى من لا يستحقّها، إلى من يودُّ لو يسحقَني ويسحقها. أرقتُ فأرِقُت معي، هَمَستُ .. صَرختُ .. ضحِكتُ وأضحَكتُ، حرّكتُ المشاعرَ الدفينة، توجهتُ للإنسان، كتبتُ عن الحب، عن الصدقِ عن الإخلاص، دوّنت للنصحِ .. للإيناس، للإرشادِ .. للإسعاد. زرعتُ الورود في معاني حروفي فقطفتُ الأحقاد، وجَمعت من حوليَ الحُسّاد
ما أقسى قلبَكَ أيها الإنسان. من ألوم، من أعاتب، أُراسل من ومن أكاتب، وكلُّ من حولي متكالب، لا يفهمُ لغةَ ضميٍر ولا خِطابَ وِجدان، والحبلُ على الغارب. من يبالي بحروفي إن تربعت على عرشِ الكلمات. هو زمنُ الجهلِ والغباء، زمنُ القهرِ والبَغاء. هو زمنُ الغلبةِ للقوةِ في ظلِ شريعةِ الغاب، السائدُ فيه منطقُ الثعالبِ والذئاب. زمنٌ توارى فيه العدلُ خلفَ القضبانِ يقاوم سجانه، إلى أن يُظهرُه اللهُ بمشيئتهِ سُبحانه
جُلُّ البشرِ لا يـرحم، لا يعتبرُ ولا يندم، على ما أجترحَ وأجرَم. تتذكرهم فيتناسونك، وتهرعُ لنجدتهم فلا يَشكرونك، وما أن تلتفت حتى يطعنونك. بنصفِ درهمِ يبيعونك. فمن يُواسيك، ويَبعثُ الأملَ فيك. من يأخُد بيدك فيُكافيك. من يذكُرك إذا رحلتَ فيَبكيك. إذا أهيلَ عليك الترابُ من يشتاقُ إليك فيأتيك
اليأسُ تملَّكني، وتسللَ إلى أعماقي فسكنني، والألمُ حل بيَ فأسكتني. تقطَّعت بيَ السُبُل وخبا في نفسي دفئُ الأمل. لقد افترسوا بجبروتهم أحلامي، ونثروها حُطاما على الكثبان
أفكرُ في الرحيل، عن جليدِ القلوبِ وقسوة الخطوب، عن أهل الذنوب. دموعي أفاضَها قلبي من مآقي عيوني، فخطـّت طريقي نحو شاطئِ الإذعان. ومن سيبالي، ومن سيرقّ قلبُه لحالي، ويلتفتُ لوَحشتي في عتمةِ الليالي
لا لن أريهم دمعتي، ولن أبوحَ لهم بسر لوعتي. لن أكشفَ لهم أسبابَ حَسرتي، لصُدودهم عن ألوانِ فنوني وعبرتي. لن أبَدّلَ سُنتي، ولن تفتر هِمتي. سأبقى متألقاً في القِمة. لن أشربَ بعدَ اليومِ بأقداحٍ صِغار. سأواصلُ العزفَ على مسرحِ الأوتار، آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار
سيرقَّ القلمُ لكلماتي ويَلين. ويعودَ طيعاً بين أناملي ويَستكين. سأخبرُه أن مدرسةَ العطاءِ علمَتني أن أُعطي لا أن أسال. أن أصبِرعلى أذى الناسِ وأتحمَّل. وأني له الصديقُ الوفيُ وأنه ليَ الرفيقُ الأول
سأبيّنُ للناسِ حُجتي، إن رغبوا أو أعرضوا عن نُصحي وعِظتي. سأتركُ لهم يوماً بصمتي. لن أدعَهم يحجزون لي مقعداً في قطارِ الوَداع، ولا في مركبٍ صغيرٍ ذاتَ شراع، ليُبحر بي إلى متاهات الضياع. بعدَ اليومِ لن أبتـئِس، وسيُخزى كلُ حقودٍ ملتبس، وسيخسرُ الغافلُ المُنغمِس، في غياهبِ الشهواتِ وظلمات الجهلِ ودنائةِ الغايات
Labels: قسوة الأيام، دارت الأيام، الصمت، صمت الكلمات، صمت الحروف
0 Comments:
Post a Comment
Subscribe to Post Comments [Atom]
<< Home